أدّت الانتفاضات التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا مؤخرًا إلى بروز عدد من التغيرات السياسية التي طالت جميع بلدان المنطقة تقريبًا وزرعت التفاؤل والأمل بإحداث إصلاح إجتماعي وإقتصادي مهمّ في هذه البلدان. وفي حين تمّ التركيز في شكل خاص على التداعيات الأمنية والاقتصادية لهذه التغيرات، كان لهذه التحوّلات آثار كبيرة على صحة ورفاه السكان إلى جانب تأثيرها على نظم الحماية الإجتماعية. يُعاني عدد كبير من بلدان منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من نقاط ضعف كبيرة وقصيرة الأمدّ من حيث الصحة بسبب الانتفاضات. وتتضمّن نقاط الضعف أولًا عدد القتلى والجرحى الذين وقعوا خلال الانتفاضات والذي سجّل نسبة كبيرة – أقله في سوريا- والذي لا يزال يشهد ارتفاعًا. كما تفاقمت مشكلة تهجير السكان لا سيّما في البلدان المجاورة لسوريا. وفي هذا السياق، تفيد التقارير إلى نزوح ما يزيد عن 500 ألف شخص من سوريا يعانون من تداعيات التهجير مثل الاﺿﻄﺮاﺑﺎت اﻟﻨﺎﺗﺠﺔ ﻋﻦ إﺟﻬﺎد ﻣﺎ ﺑﻌﺪ اﻟﺼﺪﻣﺔ لا سيّما لدى الأطفال. ويشكّل الضرر اللاحق بنظم الصحة العامة أحد أكبر المخاطر القصيرة الأمدّ. على الرغم من استبعاد تدهور هذه النظم في البلدان التي لا تزال مستقرة، من المرجّح أن تتدهور هذه النظم في ليبيا وسوريا، كما تظهر الدلائل المتاحة الخاصة بتداعيات تدهور هذا النوع من الخدمات على صحّة السكان في العراق نتائج غير مطمئنة.
لا تزال البلدان في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تُعاني من نقاط ضعف مختلفة طويلة الأمدّ في مجال الصحة وكان عدد كبير من نقاط الضعف هذه ظاهرًا قبل بدء الانتفاضات ولكنّها تبلورت وأصبحت جليّة بعد اندلاعها. تشهد المنطقة انتشارًا واسع النطاق لمستويات البطالة المرتفعة لا سيّما في صفوف الشباب. وقد ازدادت مستويات البطالة ارتفاعًا بسبب الوضع الغير المتكافئ للمرأة التي تعاني من ارتفاع معدّلات الأميّة وتراجع مستويات مشاركتها السياسية والاقتصادية على الرغم من أنّ المرأة لعبت دورًا رياديًا في قيادة الانتفاضات. ولسوء الحظّ، لا يتمتّع عدد كبير من هذه البلدان بالقدرة الوافية للإستجابة إلى هذه الأزمة بسبب الإهمال الطويل الأمدّ لنظم الرعاية التي من شأنها أن تحمي السكان من تداعيات التقلّب الاقتصادي المدمّر الناجم عن عملية الانتقال السياسي. إلى جانب هذه التحديات، تعاني هذه البلدان من إرث العنف الحالي المتجذّر تاريخيًا والذي لا يزال عدد ضحاياه غير واضح.
من جهة أخرى، بلغ إجمالي النفقات على الرعاية الصحية في عدد من بلدان المنطقة مستوى إجمالي النفقات الصحية في البلدان ذات الدخل المرتفع ولكن مع اختلاف في العائدات على الإستثمار في الصحة. وقد أدّى هذا الواقع إلى حجب برامج الإصلاح المحدودة وغياب الاستثمار الحكومي المستدام في الصحة والعناية الصحية. عامةً، تُظهر بلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا مستويات منخفضة في الإنفاق الحكومي على الصحة إلى جانب تراجع معدلات التغطية الصحية، كما اعتادت هذه البلدان على الإنفاق من الأموال الخاصة. وفي هذا السياق، من المعروف أنّ قدرة الصحّة العامة في عدد كبير من بلدان المنطقة ضعيفة. ويعزى سبب هذا الضعف جزئيًا إلى النقص المزمن في الاستثمار: فبين العام 1990 و2006 إستثمرت الحكومات في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ما بين 1.7 في المائة (بيانات صندوق النقد الدولي) و2.8 في المائة (بيانات منظمة الصحة العالمية) من إجمالي الناتج المحلي في الصحة ما أدّى إلى عزل هذه المنطقة عن باقي بلدان العالم بسبب انخفاض الإنفاق على الصحة على الرغم من أنها دول ذات دخل متوسّط مرتفع.
تمّ تأسيس وتطوير نظم الصحة والرعاية الضعيفة هذه طوال السنين العشرين الماضية عندما كانت بلدان المنطقة تشهد انتقالًا سريعاً إلى إقتصادات السوق. وكان ذلك الانتقال مبنياً على تخفيضات غير دقيقة في الإنفاق الإجتماعي العام إلى جانب التخصيص الغير المصحوب بآليات الحماية الإجتماعية. وتمّ التركيز على التقدّم التكنولوجي في الرعاية الصحية عوضًا عن الوقاية في الصحة العامة والإصلاح على مستوى الحوكمة وإدماج الصحة كجانب أساسي من جوانب الأمن الإنساني.
تواجه الحكومات في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تحديات كبيرة من حيث الاستجابة في الشكل الملائم إلى نقاط الضعف المذكورة في زمن التغيير المستمر. ستؤدّي عملية إعادة ترتيب الأولويات في الإنفاق الحكومي لمصلحة الصحة العامة إلى فرض تخفيضات على الإنفاق في مجالات أخرى بما فيها قطاع الدفاع. ونظراً إلى أنّ ستّ دول من بين البلدان العشرة الأكثر إنفاقاً على الترسانة العسكرية هي دول عربية (بالنسبة المئوية من إجمالي الناتج المحلي)، سيكون هذا التغيير في الإنفاق التحدّي الأكثر صعوبة – والأكثر ضرورة- بين جميع التحديات. وتبيّن نتائج الأبحاث التي طالت عمليات الانتقال الإجتماعي والسياسي في بلدان أخرى من العالم (بما فيها أوروبا الشرقية منذ العام 1989) أنّه من الضروري أن تولي الحكومات العربية الأولوية إلى المجالات التالية:
1- ضمان استثمار الموارد الملائمة لتنمية نظام الصحة العامة على الرغم من بروز عدد كبير من أولويات الإنفاق الأخرى.
2- الحؤول دون فرض تغيير إجتماعي إقتصادي لمصلحة الإصلاح الجذري.
3- التعامل مع المصالح الراسخة التي قد تختار القيام بعمليات إنتقالية لتحقيق إصلاحات الليبيرالية الجديدة في قطاع تطغى عليه صفة خدمة الخير العام.
4- تعزيز الشفافية والرقابة من خلال اعتماد نظم مراقبة متينة.
يعقد المكتب الإقليمي لشرق المتوسّط التابع لمنظمة الصحة العالمية جلسةً الشهر القادم في القاهرة بشأن "تعزيز النظم الصحية: التحديات والأولويات والخيارات للعمل في المستقبل". وستتمّ مناقشة معظم التحديات والوقائع المذكورة في هذا البحث إلى جانب اقتراح عدد من التوصيات في مجال الإصلاح مع التركيز على المشكلة الأساسية وهي أنّ " انخفاض الإنفاق الحكومي على الصحة ليس ناجمًا عن قيود المالية العامة وحسب بل هو ناتجٌ أيضًا عن عدم إعطاء الأولوية الكافية للصحة". وبالتالي، تدعو الحاجة إلى تغيير هذه المقاربة بالتحديد في أقرب وقت ممكن.
وأخيراً، يكمن السؤال الأساسي في معرفة ما إذا كانت حكومات الربيع العربي الجديدة قادرة على معالجة هذه المخاطر الطويلة الأمد التي تهدّد استقرار البلدان من خلال خدمة مصالح الشعوب التي ضحت أحياناً بحياتها أو ما إذا اختارت أن تسعى في نهاية المطاف إلى خدمة المصالح المترسّخة في سبيل تحقيق أرباح مالية شخصية. وبالتالي، ستحدّد المقاربة التي تعتمدها تلك الحكومات آفاق ومستقبل الصحة والرعاية في المنطقة للعقود القادمة.
[نشر المقال باللغة الإنجليزية للمرة الأولى في مجلة "فينانشال تايمز"]